تشابكات “الإسلاموفوبيا” والإرهاب في الحاضر الغربي

الكاتب : الأستاذ/ سمير فالح

 

إن كانت للمرحلة الراهنة في أوروبا والغرب إجمالاً مصطلحات معبِّرة عنها فستكون “الإسلاموفوبيا” أحدها بلا ريْب، كما سيصعد الإرهاب إلى صدارة القائمة، فالأحداث والتطوّرات تتلاحق بما يشغل السمع والبصر، لكنّ المصطلحات يجدر بها أن لا تحجب البصائر عن إدراك الظواهر الكامنة وراءها أو ملاحظة أبعادها.

سيبقى مصطلح “الإسلاموفوبيا” مثيرًا للجدل، طالما أنّ بعضهم يرفضه أو ينكره لكنّ الواقع هو الذي يشهد على المضامين التي يعبِّر عنها المصطلح من أقوال وأفعال وليس بعيدًا عن ذلك يتصاعد الاهتمام بظاهرة الإرهاب، بما تثيره من تساؤلات عن منابتها ومحفِّزاتها وأبعادها.ومهما حصل من اختلاف في نحت المصطلحات، فإنّ “الإسلاموفوبيا” تعبِّر عن ظاهرة من الكراهية أو العداء، تتوجّه ضد المسلمين أو دينهم، تسجِّل حضورها في الواقع الأوروبي والغربي إجمالاً بصور شتى. وتتداخل في تشكيل هذه الظاهرة عوامل أساسية ثلاثة، هي الإرث التاريخي والجهل والخوف.

سيبقى مصطلح “الإسلاموفوبيا” مثيرًا للجدل، طالما أنّ بعضهم يرفضه أو ينكره، لكنّ الواقع هو الذي يشهد على المضامين التي يعبِّر عنها

لا يمكن القفز على الإرث التاريخي في تحليل نشأة ظاهرة “الإسلاموفوبيا”. فقد ظلّت الصورة الحاضرة من تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب عند شريحة واسعة من الناس، في وعيهم أو لاوعيهم، هي صورة وقوف جيوش المسلمين على أبواب بواتييه وفيينا، والحملات المسماة في أوروبا بالصليبية، ثم الاستعمار المباشر لعديد من الدول الإسلامية.

تغيب عن هذه الذاكرة الجمعية مراحل التلاقح والتبادل الحضاري بين العالمين، بل حتى التعاون العسكري بين أطرافهما أحيانًا، وحين تتمسّح هذه الصورة المشوّهة للماضي بالصبغة الدينية فقد يحسبها بعضهم عقيدة بما يجعل تعديل المواقف وتصويبها مطلبًا شاقًّا.

ما يستحقّ التوقف عنده أيضًا أنّ الموروث التاريخي قد يشمل أحيانًا مرجعيات تاريخية أو نصوصًا مقدّسة، يجري تنزيلها أو تأويلها بصفة مفتعلة يغيب عنها الحسّ النقدي، أو تفتقر لمتطلبات الاتساق مع الحاضر، أو تحيين فهمها.
أمّا الجهل فينتصب عاملاً جوهريًّا في ظاهرة الكراهية والعداء الموجّهة ضد المسلمين ودينهم، فقد ظلّ الإنسان عدوّ ما يجهل، وقد لا تُجهِد المجتمعات نفسها في التعرّف بإنصاف على غيرها من المجتمعات، أو قد لا تكون معرفتها المتحققة شفّافة وأمينة.

تنشأ نتيجة ذلك فجوة معرفية تلج من خلالها أفكار ومواقف عدائية نمطية، تسوِّق لها أطراف تراهن على إذكاء الأحقاد، على أمل تحقيق مصالح ومكاسب من وراء ذلك. غير أنّ هذا الجهل يمكن أن يتبرعم من غياب المعلومة من المعنيين أنفسهم عن أنفسهم، غيابًا من حيث الأصل أو بالنظر إلى عدم الإحاطة بالطرائق والوسائل الناجعة لنشرها وترويجها بين الناس، إنها في المحصِّلة حالة من الجهل التي قد تتطوّر لتصبح مُركّبة، أو قد تكون نتيجة لتجهيل مُمنهج.

“الإسلاموفوبيا” ظاهرة تمتدّ جذورها إلى عوامل مختلفة، مثل الجهل والخوف والموروث التاريخي، وتتغذّى من تطوّرات وتفاعلات الواقع

ثمّ يتجلّى في تشكيل الظاهرة وتأجيجها عامل جوهري آخر هو الخوف، الذي كلّما سيطر على موقف ما صار سببًا في التباعد والتنافر، أو حتى العداء. إنّ الأفكار التي تنادي بصراع الحضارات مثلاً أو التي تتنبّأ به إنما تبعث بشعور الخوف والترقّب تجاه “الآخر”، وتعيق أيّ تقارب معه فضلاً عن التعارف.

صحيح أنّ لكل مجتمع أو حضارة مكاسب وإنجازات مادية وقيمية تفخر بها الأمم وتسعى لتطويرها والمحافظة عليها، لكنّ الإحساس بوجود تهديدات حقيقية أو متوهّمة تحيط بهذه الحضارة وهذه المكتسبات من شأنه أن يولِّد شعورًا بالخوف في الأمم والمجتمعات المعنيّة، ويضعها في حالة تأهّب واستنفار للدفاع عنها. ومن المألوف أن يتلاعب المستفيدون من هذه الهواجس بهذا الوتر، ويسعون إلى صناعة الخوف وترسيخه، إلى حدّ تضخيم القلق وإثارة الهلع بشتى السبل المتاحة.

ظواهر متحركة ومتفاعلة
ليست الظواهر حالة ثابتة بل متحركة، وإذا ما وجدت ظاهرة الكراهية والعداء فرصتها فستتفاقم وتتعاظم حتى تتجسّد في أعمال إرهابية، وقد تستفزّ الطرف المقابل وتذكي التطرّف عند من يطالهم الكره والشعور بالضيم والظلم. لكنّ الإرهاب بحدِّ ذاته يغذِّي ظواهر الكراهية والعداء، ويتمّ استعماله ذريعة لرفض التواصل والحوار، أو كبرهان على حتمية الصدام وضرورة الصراع.

تبقى ثقافة الكراهية في حالة تفاعل متبادل مع منطق الإرهاب، فكلاهما يتغذّى من الآخر، حتى يبدو أنّ المتطرِّفين من هذا الجانب يحتاجون المتطرِّفين من الجانب الآخر، ويوفِّر كل فريق منهما المسوِّغات لوجود الآخر.

في مسألة “الإسلاموفوبيا”
ثمّ يجدر التساؤل عن “الإسلاموفوبيا” وهل هي ظاهرة أصيلة مستقلة بذاتها؟
يمكن الزعم أنّ الحيثيات الموضوعية المتمثلة بالجهل والخوف والإرث التاريخي هي التي تصنع حالة من الكره والعداء لدى المجتمعات تجاه ظاهرة ما أو فئة معينة، مثل المسلمين ودينهم. قد تبقى هذه الحالة كامنة أو ساكنة إلى حين وقوع تطوّرات في محيطها، من مثل الأعمال الإرهابية، فتطفو حينئذ على السطح وتعبِّر عن نفسها، أو قد يأتي من يدفع بها إلى التعبير عن نفسها بأشكال مختلفة.

إذا ما وجدت ظاهرة الكراهية والعداء فرصتها فستتفاقم وتتعاظم حتى تتجسّد في أعمال إرهابية، وقد تستفزّ الطرف المقابل، وتذكي التطرّف

للصورة أبعاد مختلفة ومتشابكة، ومن التعسّف تفسيرها بشكل أحادي مبسّط. فالواقع أنّ “الإسلاموفوبيا” ظاهرة تمتدّ جذورها إلى عوامل مختلفة مثل الجهل والخوف والموروث التاريخي، وتتغذّى من تطوّرات وتفاعلات الواقع، وبعض من هذه التفاعلات يستهدف تغذيتها لخلق حالة من التنافر والصراع المستديم.

وفي مسألة الإرهاب
يبقى التساؤل عن الإرهاب هل هو ظاهرة أصيلة مستقلة بذاتها. لو كان الإرهاب كذلك فسيقتضي الأمر إدراج مجموعات من الناس من خلفيات دينية أو ثقافية أو عرقية معيّنة في قفص الاتهام، ووصمهم بهذا النعت على نحو يتعارض مع قواعد الاجتماع البشري.

يمكن افتراض أنّ بذور الإرهاب كفكر أو اقتناعات أو دوافع، متناثرة في شتى البيئات، لكنها لا تنبت ولا تثمر حتى تغذِّيها اتجاهات صنع الكراهية والتجهيل، لتتأهّل النزعة الإرهابية إلى دخول حلبة الفعل الميداني.

قد تمتدّ جذور الإرهاب إلى ما تنطوي عليه البيئة التي ينشأ فيها من جهل وخوف وموروث تاريخي، وقد تظل النزعة ساكنة كامنة إلى أن تأتي حيثيات الواقع وتفاعلاته فتزيد في تغذيتها وتوسيع رقعة انتشارها. وإذا كان لأحد من مصلحة أو فائدة في وصم هذه المجموعة أو تلك بصفة الإرهاب فإنّ له في تفعيل حيثيات الواقع وتفاعلاته في هذا الاتجاه إمكانية وسبيلاً.

بذور الإرهاب كفكر أو اقتناعات أو دوافع، متناثرة في شتى البيئات، لكنها لا تنبت ولا تثمر حتى تغذِّيها اتجاهات صنع الكراهية

التعامل مع ظاهرتين متفاعلتين
لا يسع العين الفاحصة في جدلية العلاقة بين ظاهرتي “الإسلاموفوبيا” والإرهاب في المجتمعات الغربية، أن تتخطّى البحث في جذور الظاهرتين معًا وإدراك تشابكاتهما. إنّ محاولة فهمهما كظواهر اجتماعية مركّبة أو معقدة، هي بداية طَرق أبواب الحلول والمعالجات، أما حصرهما، وبإصرار أحيانًا في إطار الفكر والأيديولوجيا فإنّ ذلك لا ينهض بمعالجات فعلية بل قد يُبقي التفاعل معهما ضمن دائرة الصراع والعداء وخلق أجواء التنافر.

أمّا التعامل مع الترابط الجدلي بين الظاهرتين فمقدّمته التسليم والاعتراف بوجود “الإسلاموفوبيا” مهما كان المصطلح الذي سيتم نحته للتعبير عن الظاهرة، وكذلك بوجود الإرهاب من جهة أخرى. ويترتب على ذلك الاقتناع بأن الظاهرتين يغذِّي بعضهما بعضا ضمن علاقة جدلية في الانتشار والاستشراء.

ويبقى أنّ المضامين الإعلامية والخطاب الديني ومناهج التربية وفلسفات التعليم والتوجيه داخل المجتمعات، يمكن أن تكون في مجموعها جزءًا من الحلّ إذا فهمت هذا الترابط الجدلي وعملت بمقتضياته، ولكنها ستكون جزءًا من المعضلة إذا لم تتعامل مع الظواهر بما تقتضيه من فهم عواملها وإدراك أبعادها وملاحظة تفاعلاتها.

 

أضف تعليقك